عقاقير الهندسة الوراثية في الميزان
بعـد مـرور 25 سنــــــة على الـدواء "الجينـي" الأول
مهد كشف أسرار جزيء الوراثة ، أو جزيء الحياة : الـ "دنا DNA " ، الطريق لتمييز بعض المورثات (الجينات) الحاوية على برنامج تصنيع بعض المركبات المهمة لاستمرار حياة الجسم البشري. وتمكن مهندسو الجينات من تطوير هذا النوع من المركبات وعرضه في الأسواق على هيئة أدوية أثارت الكثير من الجدل.عقاقير الهندسة الوراثيةفي 1982 م احتفلت هندسة الجينات بميلادها الرسمي حينما بدأت بإنتاج الدواء الأول اعتمادا على طرائق هندسة الجينات: الإنسولين البشري ؛ ليكون داعما أو بديلا للإنسولين الحيواني، المستخلص قبلها من بنكرياس الماشية، وعلى الأخص من الخنازير والأبقار المذبوحة.
وفي بواكير الثمانينيات رسم مهندسو الجينات للجماهير صورة مشرقة للأدوية المنتجة بطرائق هندسة الجينات، وشملت اللوحة المتفائلة مفعولا أقوى من الأدوية التقليدية، المصنعة بالطرائق الكيميائية، وتدنيا في المضاعفات الصحية، وسعرا أخفض بشكل ملموس.ولعل إشراق وجوه أصحاب شركات الهندسة الجينية كان يفضح ما لم يعبروا عنه بألسنتهم، ألا وهو تأكدهم من تحقيق الأرباح الوفيرة.
والآن، وأثناء الاحتفال بالذكرى السنوية العاشرة لميلاد الإنسولين البشري من المصانع الجينية، يحق لنا، أو يتوجب علينا أن نلقي نظرة فاحصة على طفولة الفرع الصناعي الجديد هذا، علنا نسعى إلى التنبؤ بمستقبله وتبعاته على الجنس البشري في سائر القارات.
فبعد مضي 10 سنوات على إنتاج الدواء الجيني الأول تعج واجهات عرض صيدليات الدول الصناعية بـ 16 دواء جينيا جديدا، بينما يصطف المئات أمام أبواب الجهات صاحبة القرار، يستخدون الإذن بغزو الأسواق الواسعة للعقاقير الطبية، سعيا وراء الأرباح المتوقعة الطائلة.
بيد أن الشكوك بدأت تحوم حول نجاح أدوية الجيل الأول فى إشباع تطلعات المرضى بسوية مقاربة لإرضاء جيوب اصحاب الشركات الصانعة.
وحق لنا أن نتساءل في وقفة التقويم (التقييم) هذه: هل تجرأ مهندسو الجينات على إطلاق العنان لخيالهم، وقطع وعود مغرقة في الطوباوية؟.
جيوب المترفينبدت الوعود التي قدمتها عقاقير الهندسة الوراثية وكأنها السحر الشافي من كل الأمراضفي 1991 م اضطرت شركة جينينتك Genentech ، البطلة التقليدية للصناعة الجينية لسنوات طويلة، إلى التخلي عن مركز الصدارة إلى منافستها أمجين Amgen ، التي تستخدم 200 , 1 عامل ومهندس وإداري، والتي حققت في 1991 م ربحا صافيا قدره 97.9 مليون دولار.
وترجع بداية الصناعة الدوائية الجينية إلى 1982 م حينما منحت وكالة الأغذية والدواء الأمريكية FDA ترخيصا لعملاقة صناعة الدواء "إلي ليلي " Eli Lilly بالإنتاج الجيني الأول لدواء الإنسولين البشري، وارتفع العدد خلال عشر سنين فقط إلى ما لايقل عن 16 دواء مصنعا جينيا.وتجاوز المترقبون على لائحة الانتظار حدود المائة، بينما يتم تدقيق فعاليتها وأمانها في دراسات سريرية تشمل آلاف المرضى.
ورغم صغر عمر صناعة الجينات فقد ارتقى رقم المبيعات السنوية لشركاتها إلى ألفي مليون دولار يضاف إليه حوالي ألف مليون لقاء بيع الخبرة الفنية أو ما يسمى ببراءات الاختراع.
وتشبع هذه الشركات تعطشها الهائل إلى المزيد من رءوس أموال الاستثمار فى بورصة نيويورك عن طريق بيع وجبات كبيرة من الأسهم دفعة واحدة إلى شركات الأدوية العملاقة، أو الأسهم الجديدة أو سندات الائتمان. ففي 1991 م وضع سوق استثمار وول ستريت بين يدي 85 شركة جينية مبلغا إجماليا يقارب 700 و 3 مليون دولار.
وهناك في الولايات المتحدة الأمريكية 742 شركة جينية لصناعة الأدوية لم تمن منها بالخسارة في 1991 م إلا 9 شركات وحسب، وهذا يثبت مرة أخرى أن المنتجات الدوائية الجينية تسمح للمستثمرين بملء جيوبهم، في حال مراهنتهم على الحصان المناسب.
الوجه الآخر للعملةبيد أن هذا التفاؤل لم يكن الحالة السائدة لدى آلاف المرضى، الذين علقوا الآمال العريضة على وعود مهندسى الجينات البراقة، والذين ينظرون إلى الواقع بمنظار آخر. إذ خبر هؤلاء "بأم أجسادهم " أن أوسع الأدوية الجينية مديحا لا يتمتع بأي تفوق يذكر على الأدوية التقليدية في مضمار المقدرة على شفاء الأمراض.
ليس هذا وحسب، بل إن بعض الأدوية الجينية زاد من احتمال المضاعفات الخطرة على حياة المصاب. كذلك لم تظهر الأدوية الجينية مواهبها في مداواة الأمراض التي أخفقت فيها الأدوية التقليدية إلا في استثناءات محدودة. ويزيد الطين بلة ارتفاع أسعارها عن أخواتها التقليدية أضعافا مضاعفة في كثير من الحالات؟ ولا يشذ عن ذلك سوى استثناء يتيم، يتجلى في لقاح التهاب الكبد- ب، الذي تباع جرعته الجينية مقابل دولار وحيد، بينما كانت قيمتها تتراوح في الماضي بين حوالي 30 و60 دولارا، وبذا أضحى السعر مشجعا لمنظمة الصحة العالمية لإجراء حملات تلقيح واسعة النطاق في دول العالم الثالث الآسيوية، حيث ينتشر الفيروس انتشارا كبيرا
ويعود هؤلاء المرضى بذاكرتهم إلى بواكير الثمانينيات بقلوب تعصرها المرارة ليتساءلو : أين هي الأحلام الأدوية الجينية حول الفعالية والمضاعقات والأسعار؟!.
اختلاط الأوراقنموذج لجزئ الدنا DNA الشفرة الوراثية التي بنى عليها تجار عقاقير الهندسة الوراثية عالما من الاحتمالات الواقعية والخيالية ايضاولعل خيبة الأمل هذه كانت وراء التصريح للمسئول الإعلامي لشركة أمجين، بطلة مبيعات 1991 م "بأن علينا تثبيط همم زبائننا المحتملين إزاء الإقبال على شراء منتجاتنا " في مؤتمر نادي نيويورك رود رانرز، الذي مولته شركة أمجين، وشبه بعض الصحفيين هذا التصريح بتحذير من تحول إكليل غار النجاح المؤقت إلى حبل يخنق صناعة الأدوية الجينية الناشئة حتى الموت.
ويتكهن بعض المراقبين بأن هذا التحذير حرضه اختلاط أوراق منتج شركة أمجين الرئيسي، الذي يساعد على نمو كريات الدم الحمراء، واسمه إبو EPO :
1- حقق إبو لأمجين في 1991 م مبيعات خيالية بلغت 409 ملايين دولار.
2 - قلل عدد مرات نقل الدم عند المضطرين إلى غسل الكلى.
3 - يساعد إبو الكريات الحمراء على أسر كمية أكبر من الأكسجين (الضروري لحرق الغذاء وتوليد الطاقة اللازمة للجهد العضلي) عند ممارسي الرياضات الشاقة: مثل العدائين والدراجين. وأدى إلى تقصير مدة قطع سباق 000، 10 متر عند بعض عدائي المسافات الطويلة بحوالي نصف دقيقة. وهذا ليس بالفارق الصغير. ومثل هذه الأخبار تسري سريان النار في الهشيم. وبذا حظي إبو بشعبية واسعة جدا في فترة الاختبارات التجريبية، وحتى قبل الترخيص بتداوله في شباط (فبراير) 1991 م.
بيد أن جعبة إبو تعج بالمزيد من المفاجآت، إذ إن جرعاته المتطرفة الارتفاع تزيد سماكة الدم، وبالتالي احتمال انسداد الأوعية الدموية و"الجلطة" المميتة.وهنا حملته أصابع الاتهام مسئولية الموت الغامض والمفاجىء للعديد من دراجي المسافات الطويلة.
ويرى العديد من الخبراء أن حالة إبو تمثل- اختصارا للصورة الإجمالية للأدوية الجينية عموما- نجاحا تجاريا كبيرا مع فعالية شفائية واضحة في جانب، والمضاعفات الخطرة في الجانب الآخر.
الرائد الأولويسرى اختلاط الأوراق هذا على رائد الدواء الجيني الأول: "الإنسولين البشري "، الذي يتعاطاه يوميا مرضى السكري، الذين توقف (البنكرياس) عندهم عن العمل. وكان هؤلاء يحقنون في الماضي بالإنسولين "الحيواني " المستخلص من بنكرياس الأبقار والخنازير، لكن مناعة (حصانة) الجسم البشري كانت تقاوم هذا البروتين " الغريب " بضراوة في بعض الأحيان. وتوقع أنصار هندسة الجينات ترحيب جملة المناعة بدواء الإنسولين البشري- الذي يفترض إنتاجه في الجسم البشري عينه عادة- واستقباله استقبالا حسنا. بيد أن الاختبار العملى- خلال. 10 سنين- لم يؤكد هذا الادعاء حتى الآن. كذلك لم يثبت التنبؤ بانخفاض سعره عن عقاقير الإنسولين التقليدية.
ليس هذا وحسب، بل يتربص سيف ديموقلس بعقار الإنسولين البشري منذ بضع سنين. إذ أجرى الطبيبان السويسريان ماتياس إغر وارتور تويتش في مشفى برن الجامعي دراسة استغرقت خمس سنين، لاحظا فيها تزايد حالات الإصابة بنقص السكر بالمقارنة مع تعاطي الإنسولين الحيواني.
ومادام الأمر كذلك فكيف يبرر الأطباء الإزاحة السريعة للإنسولين الحيواني؟. يرجع بعض الأطباء السبب إلى إلحاح مرضاهم على العقار الجديد، الذي فتنتهم به وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ومنهم من يرده إلى الحيل التسويقية والترويجية الذكية للشركات المنتجة للإنسولين البشري، مثل طرح أقلام الإنسولين Insulin Pens في الصيدليات: وهو عبارة عن محقن حاو على الإنسولين البشري على هيئة قلم حبر تقليدي، سهل الحمل والاستعمال.
مكافح الجلطةوعلى شاكلة مشابهة فقد رائد آخر من رواد الأدوية الجينية بريقه وهو دواء إذابة الجلطة الدموية، المشهور باسم منشط بلازمين النسج (تبا TPA). وخمنت الشركة الأمريكية الصانعة جينينتك Genentech بأن " تبا " سيكون أشبه بسلاح عجيب يذيب الجلطة الدموية بسرعة مذهلة لإنقاذ المصاب بأزمة قلبية. ولن يكون- حسب تخمينها- أشد فعالية من الأدوية التقليدية المشابهة وحسب، بل سيقلل أيضا من المضاعفات المحتملة. وفي البدء أيد هذا التصور بعض الاختبارات السريرية (الإكلينيكية).، لكن الأوراق عادت إلي الاختلاط أمام الخبراء فيما بعد، إذ كشف دراسة عالمية مقارنة شملت حوالي 46 ألف مصاب بالجلطة عولجوا إما بأحد الأدوية التقليدية (ستريبتو كينا Streptokinase ) أو بالدواء الجيني تبا TPA ، وأن فعالية كلا الدواءين في إذابة الجلطة "متقاربة"، لكن تبا يفتح بابا أوسع للتعرض لنزف في الدماغ.
ومما يزيد من حيرة المراقبين الاقتصاديين أن يزيد سعر تبا على سعر منافسه التقليدي من 5 إلى 10 مرات، وأن يسجل- رغم ذلك- الرقم القياسي لمبيعات أدوية شركة جينينتك لعام 1991 م بمبلغ قدره 197 مليون دولار.
بـــــــــريق الأمــــــــــلما هي حقيقة السحر والسحرة
يعدل من ضبابية هذه الصورة بريق الأمل الذي بثته مجموعتان من الأدوية الجينية، المشابهة للإنسولين- من حيث المبدأ- في كونها تصنع في الجسم البشري أصلا. وتشترك هاتان المجموعتان في تحفيز بناء مستعمرات (المناعة)، ومن هنا جاءت التسمية المشتركة (عامل تحفيز الاستعمار Colony - Stimulating Factor ) واختصارها سي - إس- إف CSF . ويتركز دورها المشترك في تحفيز المراحل المسبقة لنشوء الخلايا المسئولة عن المناعة في الدم خاصة.
لذا يطلق على الدواء الجيني المحفز لنشوء "مستعمرات " الكريات البيض Granulozyte وحدها اسم غ- سي إس إف G-CSF . أما ذلك الذي يحرض نمو كل من الكريات البيض والخلايا المفترسة Macrophage فيسمى غ م- سي إس إف GM-CSF .
ولا يفوتني أن أشير هنا إلى أن نطاق عملية التحفيز لا ينحصر ضمن إطار الأوعية الدموية وحسب، بل يتعداه إلى أروقة الشركات التجارية المنضمة حديثا إلى صناعة الجينات: إذ أضاف غ- سي إس إف إلى شركة أمجين وحدها مبيعات بمبلغ 232 مليون دولار في 1991 م، كما رفع غ م- سي إس إف مبيعات شركة إمونيكس إلى 34 مليون دولار.
ويرجع بعض المراقبين سبب هذا النجاح المتميز إلى استخدام هذه العقاقير في التصدي للسرطان، إذ لحظ ترخيص غ م - سي إس إف مداواة المرضى الذين يزرعون نقي العظام- بسبب الإصابة بسرطان الدم مثلا- أماغ- سي إس إف فيؤازر المداواة الكيميائية للسرطان.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العقارين ليسا من الأدوية الشافية، بالمعنى الحرفي للكلمة: إذ يتعاطى زارع نقي العظام وزارعو الأعضاء الأخرى عموما، كالكلى مثلا- أدوية تكبح المناعة العامة للجسم تفاديا لرفض العضو المزروع "يد العضو المحدودة للمساعدة". لكن هذا يسهل غزو الجسم من قبل الجراثيم. فإذا تعرض زارع نقي العظام لحالة التهاب (هجوم) خطر عندها يبدأ دور غ- سى إس إف، وغ م- سي إس إف في إعادة تنشيط جملة الدفاع- المشلولة سابقا- وإعادتها إلى سويتها وجاهزيتها القتالية الطبيعية، خلال أقصر فترة زمنية ممكنة.
رغم ارتفاع أسعار هذه الأدوية الجينية إلا أن نماذج المحاكاة بالحاسوب (الكمبيوتر) دلت أن تقصيرها لفترة العناية المشددة في المشفى تختصر من التكلفة مبلغا كبيرا، مما يجعل استخدام هذه الأدوية الباهظة ظاهريا أمرا مبررا ومجديا اقتصاديا: وبذا يؤدي تعاطيها إلى ربح مالي صاف. وهذا من الأسباب الرئيسة، التي تجعل مصنعي "بريق الأمل " هذا يتفاءلون بمستقبل مشرق.
آفاق المستقبل
في بواكير الثمانينيات صورت شركات صنع الأدوية بطرق هندسة الجينات عقاقيرها المزمع إنتاجها بأنها الأفضل من حيث الفعالية، والمضاعفات والسعر. وأثارت بذلك لعاب الجماهير لاستقبال المنقذ الجديد. فما هو رأي جماهير الدول الصناعية في الذكرى العاشرة لميلاد الدواء الجيني الأول: الإنسولين؟
يبدو التقويم (التقييم) الأولي أقرب إلى عدم النجاح. ففي استفتاء شمل بعض مواطني دول السوق الأوربية المشتركة 1991 م كانت اللوكسمبورغ وحدها أشد تزمتا إزاء الأدوية الجينية من ألمانيا.
وانطلاقا من المعيار المتشدد الذي وضعته شركات الأدوية فإن عددا قليلا فقط من رواد الأدوية الجينية الأول يعد بتحقيق الآمال المعقودة على التقنية الجديدة.كما يرى العديد من المراقبين أن 10 سنين من التسويق التجاري أو 20 سنة منذ بداية بحوث تطوير الأدوية ليست كافية لإصدار حكم عادل على درجة نجاح هندسة الجينات.
وحسب اعتقادي المتواضع- غير المتحيز لهذه الفئة أو تلك- فإن المدة الزمنية التي مضت من طفولة هندسة الجينات غير كافية لإصدار حكم نهائى عليها؟ ولاسيما إذا قارناها بأقرب أخواتها: الهندسة الكيميائية، التي لم تظهر مساوئها أمام عيون الجماهير العريضة إلا بعد مضي قرن كامل تقريبا على ميلادها، وعلى الأخص أضرار "الإفراط " في استخدام الأسمدة الكيميائية.
وظاهرة "الإفراط " عينها قد تفسر المضاعفات التي رافقت تعاطي "بعض " الأدوية الجينية على الأقل. ففي مثال العقار إبو EPO ، الذي ينمي الكريات الحمراء لتأمين وصول كمية أكبر من الأكسجين لأعضاء الجسم المختلفة، يجدر بنا أن نتذكر أن الدواء يعطى للمرضى فقط لتلافي خلل ما، هو عجزكريات الدم عن نقل الكمية الفرورية من الدم إلى الأعضاء المحتاجة. أما أن يتعاطى الدواء أشخاص أصحاء لتحسين أرقامهم في الرياضات الشاقة، فلا يدخل في حسبان مصمصي الأدوية عادة. ومما يزيد الطين بلة إقبال هؤلاء الرياضيين - ودون رعاية طبية كافية على ما يبدو- على تناول جرعات "متطرفة الارتفاع "، كما ورد في التحريات التي تلت وفاة بعض الرياضيين.
ولو وضع المرء المترؤي جانبا جميع التفاصيل والإحصاءات وحاول تصور مفعول إبو فقد يصل إلى الصورة التالية: تكمن مهمة إبو في تنمية الكريات الحمراء، وبذا ستجد الكريات "المنتفخة" صعوبة في عبور بعض المنافذ الضيقة للأنابيب الشعرية، وعند تطرف ارتفاع جرعات إبو يزداد الانتفاخ والتضخم وبالتالي يزداد تعثر الكريات في المعابر الشعرية. ولا يستبعد عندها حدوث انسداد الشريان الشعري.وهذه هي الجلطة المخيفة. لو تسنى لنا تدقيق خيط الإفراط فلربما وجدناه- حسب اعتقادي المتواضع- مرة أخرى في التعامل مع مذيب الجلطة الجيني تبا TPA . إذ تركز الاعتراض "الفني " على زيادة حالات الإصابة بنزف الدماغ بالمقارنة مع مذيبات الجلطة التقليدية. ولو حاول المرء رسم صورة للأحداث- مثل الحالة السابقة لمحرض نمو الكريات الحمراء- لوصل إلى الصورة التالية: لا تكمن مهمة تبا في إذابة الجلطة المتخثرة وحسب، بل في ترقيق الدم عموما وتخفيض لزوجته. وبذا يصبح الدم رقيقا جدا، ولاسيما عند تطرف ارتفاع الجرعة حرصا على إسعاف المصاب بالأزمة القلبية خلال أقصر فترة ممكنة، إلى حد يتمكن فيه الدم الرقيق من اختراق مسامات الجدران الرقيقة للأوعية الشعرية الدموية في المخ. وهكذا يحصل نزف في الدماغ.
ولعل ما يشجعني على هذا التخمين دراسة ميدانية أجريت قبل بضع سنين على عدد كبير من العاملين في سلك الطب حول دور الأسبرين في الوقاية من الجلطة. ورغم إظهار الأسبرين لمواهب فائقة في الوقاية من الجلطة إلا أن اثنين من المشاركين توفيا بنزف دماغي، فسر موتهما بالصورة التي رسمتها أعلاه. وقتها اقترح المشرفون على دراسة الأسبرين قصر استخدامه في المجال المدروس على من تعرض لأزمة قلبية واحدة على الأقل، وهذا قد يؤدي بالإشارة بإصبع الاتهام إلى "الإفراط " في تناول الأدوبة الجينية.
أما في مجال الأسعار فأعتقد أن الشركات المنتجة للأدوية الجينية قد تسرعت بإطلاق الوعود البراقة والكلام المعسول، وورطها شغفها بالربح السريع في ولوج مضمار المزاحمة مع صناعة الدواء التقليدية، فضللها الطمع بالأسواق الكبيرة و"الجاهزة" عن رؤية العثرات التي تعترض طريقها:
* انى لفرع صناعي ناشىء مزاحمة فرع آخر يزيد عمره على مائة سنة؟ فرع تنتج آلاته وتجهيزاته إنتاجا نمطيا بأعداد كبيرة تقلل التكلفة؟ فرع يستخدم فنيين ومهندسين تخرجهم المعاهد والكليات بأعداد وافرة؟
* لابد لكل شركة ناشئة من وضع "ثمن الخبرة" العملية طيلة مدة تستغرق- في الصناعات التقليدية- من 5 إلى 10 سنين. وهذا الثمن ينعكس على التكلفة الإجمالية بطبيعة الحال.
وفي اعتقادي المتواضع ستكون الجماهير أكثر استعدادا لغض النظر عن الأسعار حينما تستقبل الأدوية الجينية من الجيلين الثاني والثالث، والتي تمر الآن بمراحل التجريب السريري والمخبري، والموجهة للأمراض المستعصية على الأدوية التقليدية، مثل الزهايمر وأمراض العصبونات (النويرونات) الأخرى، والأورام بأنواعها، وأمراض المناعة الذاتية.. وغيرها.
ولو نجحت هذه الأدوية الجديدة عمليا لحققت نجاحأ باهرا في إرضاء جيوب المتخمين والمرضى اليائسين على حد سواء ؛ وفي الانطلاق إلى آفاق بعيدة عن المزاحمة الضيقة لصناعة الدواء التقليدية.